فصل: أمة النصارى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.أمة النصارى:

وهم أمة المسيح عليه السلام، من كتاب الملل والنحل للشهرستاني قال: وللنصارى في تجسد الكلمة مذاهب. فمنهم من قال: أشرقت على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال: انطبعت فيه انطباع النقش في الشمعة، ومنهم من قال تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء.
واتفقت النصارى على أن المسيح قتلته اليهود وصلبوه، ويقولون أن المسيح بعد أن قُتل وصلب ومات، عاش فرأى شخصه شمعون الصفا، وكلمه وأوصى إليه، ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء. قال: وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وكبارهم ثلاث فرق، الملكانية والنسطورية، واليعقوبية.
أما الملكانية فهم أصحاب ملكا الذي ظهر ببلاد الروم، واستولى عليها، فصار غالب الروم ملكانية، وهم يصرحون بالتثليث وعنهم أخبر الله تعالى بقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وصرحت الملكانية أن المسيح ناسوت كلي، وهو قديم أزلي من قديم أزلي، وقد ولدت مريم إلهاً أزلياً، والقتل والصلب وقعا على الناسوت واللاهوت معاً، وأطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، وذلك لما وجدوا في الإنجيل: إنك أنت الابن الوحيد، ولما رووا عن المسيح أنه قال حين كان يصلب: أذهب إلى أبي وأبيكم.
وحرموا أريوس لما قال: القديم هو الله تعالى والمسيح مخلوق، واجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة بالقسطنطينية، بمحضر من قسطنطين ملكهم، وكانوا ثلاثمائة ثلاثة عشر رجلاً، واتفقوا على هذه الكلمة اعتقاداً ودعوة وذلك قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده اتفقت العوالم، وكل شيء الذي من أجلنا وأجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب ودفن ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالجياة الدائمة أبد الآبدين.
هذا هو الاتفاق الأول على هذه الكلمات، ووضعوا شرائع النصارى واسم الشريعة عندهم الهيمانوت.
وأما النسطورية فهم أصحاب نسطورس، وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا، خالفت النسطورية الملكانية في اتحاد الكلمة، فلم يقولوا بالامتزاج، بل إن الكلمة أشرقت على جسد المسيح كإشراق الشمس في كوة، أو على بلور، وقالت النسطورية أيضاً: إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته، لا من جهة لاهوته، خلافاً للملكانية.
وأما اليعقوبية وهم أصحاب يعقوب البردغادي وكان راهباً بالقسطنطينية، فقالوا إن الكلمة انقلبت لحماً ودماً، فصار الإله هو المسيح.
قال ابن حزم: واليعقوبية يقولون: إن المسيح هو الله قتل وصلب ومات، وإن العالم بقي ثلاث أيام بلا مدبر، وعنهم أخبر القرآن العزيز بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72]، ومن كتاب ابن سعيد المغربي قال: البطارقة للنصارى بمنزلة الأئمة أصحاب المذاهب للمسلمين، والمطارنة مثل القضاة، والأساقفة مثل المفتين، والقسيسون بمنزلة القراء، والجاثليق بمنزلة الإمام الذي يؤم في الصلاة، والشمامسة بمنزلة المؤذنين وقومة المساجد، وأما صلوات النصارى فإنها سبع، عند الفجر والضحى والظهر والعصر والمغرب والعشاء ونصف الليل، يقرؤون فيها بالزبور المنزل على داود تبعاً لليهود في ذلك، والسجود في صلاتهم غير محدود، قد يسجدون في الركعة الواحدة خمسين سجدة، ولا يتوضؤون للصلاة، وينكرون الوضوء على المسلمين واليهود، ويقولون الأصل طهارة القلب.
ومما نقلناه من كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك للخرقي في الهيئة، أن للنصارى أعياداً وصيامات، فمنها صومهم الكبير، وهو صوم تسعة وأربعين يوماً، أولها يوم الاثنين وهو أقرب اثنين إلى الاجتماع الكائن فيما بين اليوم الثاني من شباط، إلى اليوم الثامن من آذار، فأي اثنين كان أقرب إليه، إما قبل الاجتماع وإما بعده، فهو رأس صومهم، وفطرهم أبداً يكون يوم الأحد الخمسين من هذا الصوم، وسبب تخصيصهم هذا الوقت بالصوم، أنهم يعتقدون أن البعث والقيامة في مثل يوم الفصح، وهو اليوم الذي قام فيه المسيح من قبره بزعمهم.
ومن أعيادهم الشعانين الكبير وهو يوم الأحد الثاني والأربعون من الصوم، وتفسير الشعانين التسبيح، لأن المسيح دخل يوم الشعنينة المذكورة إلى القدس، راكب أتان يتبعها جحش، فاستقبله الرجال والنساء والصبيان وبأيديهم ورق الزيتون، وقرؤوا بين يديه التوراة إلى أن دخل بيت المقدس، واختفى عن اليهود يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وغسل في يوم الأربعاء أيدي صحابه الحواريين وأرجلهم، ومسحها في ثيابه، وكذلك يفعله القسيسون بأصحابهم في هذا اليوم، ثم أفصح في يوم الخميس بالخبز والخمر، وصار إلى منزل واحد من أصحابه، ثم خرج المسيح ليلة الجمعة إلى الجبل، فسعى به يهوذا وكان أحد تلامذته إلى كبراء اليهود، وأخذ منهم ثلاثين درهماً رشوة، ودلهم عليه، فألقى الله شبه المسيح على المذكور، فأخذوه وضربوه ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وأنالوه كل مكره وعذبوه بقية تلك الليلة، أعني ليلة الجمعة إلى أن أصبحوا فصلبوه بزعمهم أنه المسيح، على ثلاث ساعات من يوم الجمعة، على قول متى ومرقوس ولوقا، وأما يوحنا فإنه زعم أنه صلب على مضي ست ساعات من النهار المذكور، ويسمى جمعة الصلوب وصلب معه لصان على جبل يقال له الجمجمة واسمه بالعبرانية كاكله وماتوا على ما زعموا في الساعة التاسعة، ثم استوهب يوسف النجار، وهو ابن عم مريم المسيح من قائد اليهود هيروذس، واسمه فيلاطوس، وكان ليوسف المذكور منزلة ومكانة عنده فوهبه إياه فدفنه يوسف في قبر كان أعده لنفسه، وزعمت النصارى أنه مكث في القبر ليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد ثم قام صبيحة يوم الأحد الذي يفطرون فيه، ويسمون النصارى ليلة السبت بشارة الموتى بقدوم المسيح.
ولهم الأحد الجديد وهو أول أحد بعد الفطر، ويجعلونه مبدأ للأعمال وتاريخاً للشروط والقبالات.
ولهم عيد السلاقا ويكون يوم الخمسين، بعد الفطر بأربعين يوماً، وفيه تسلق المسيح مصعداً إلى السماء، من طور سيناء.
ولهم عيد الفنطي قسطي وهو يوم الأحد بعد السلاقا بعشرة أيام. واسمه مشتق من الخمسين بلسانهم، وفيه تجلى المسيح لتلامذته وهم السليحيون، ثم تفرقت ألسنتهم وتوجهت كل فرقة إلى موضع لغتها.
ولهم الدنح وهو سادس كانون الثاني، وهو اليوم الذي غمس فيه يحيى بن زكريا الميسح في نهر الأردن.
ولهم عيد الصليب وهو مشهور.
ولهم الميلاد ويصومون قبله أربعين يوماً، أولها سادس عشر تشرين الآخر وكان الميلاد في ليلة الرابع والعشرين من كانون الأول: وفي الليلة المذكورة ولدت مريم المسيح في قرية بالقرب من القدس تسمى بيت لحم.
وأما الإنجيل فهو كتاب يتضمن أخبار المسيح عليه السلام، من ولادته إلى وقت خروجه من هذا العالم، كتبه أربعة نفر من أصحابه، وهم متى كتبه بفلسطين بالعبرانية، ومرقوس كتبه ببلاد الروم باللغة الرومية، ولوقا كتبه بالاسكندرية باللغة اليونانية، ويوحناّ كتبه بالإسكندرية باللغة اليونانية أيضاً.
ولهم صوم السليحيين وهو ستة وأربعون يوماً، أولها يوم الاثنين تالي الفنطي قسطي، بعد الفطر الكبير بخمسين يوماً، ولهم فيه خلاف.
ولهم صوم نينوى ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين الذي قبل الصوم الكبير باثنين وعشرين يوماً.
ولهم صوم العذارى وهو ثلاثة أيام أولها يوم الاثنين، يتلو الدنح، وفطره يوم الخميس.
الأمم التي دخلت في دين النصارى فمنها:
أمة الروم:
قال أبو عيسى: وهذه الأمة على كثرتها وعظم ملوكها واتساع بلادها، إنما نجمت من بني العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان أول ظهورهم في سنة ست وسبعين وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام، وساروا إلى البلاد المعروفة ببلاد الروم وسكنوها، وحينئذ ابتدأت الروم توجد.
ومن كتاب ابن سعيد المغربي إن الروم يعرفون ببني الأصفر، والأصفر هو روم العيص بن إسحاق على أحد الأقوال من الكامل، وغيره أن الروم كانت تدين بدين الصابئة، ويعبدون أصناماً على أسماء الكواكب، وما زالت الروم ملوكها ورعيتها كذلك حتى تنصر قسطنطين وحملهم على دين النصارى، فتنصروا عن آخرهم ومن أمم النصارى الأرمن وكانت بلادهم أرمينية، وقاعدة مملكتها خلاط فلما ملكها المسلمون صارت الأرمن رعية فيها، ثم تغلبت الأرمن على الثغور وملكوا من المسلمين طرسوس والمصيصة واستولوا على تلك البلاد التي تعرف اليوم ببلاد سليس، وسليس مدينة، ولها قلعة حصينة، وهي كرسي مملكة الأرمن في زماننا هذا.
ومنها الكرج وبلادهم مجاورة لبلاد خلاط، آخذة إلى الخليج القسطنطيني، وممتدة إلى نحو الشمال، ولهم جبال منيعة، والكرج خلق كثير، وقد عليهم دين النصارى، ولهم قلاع حصينة وبلاد متسعة، وهم في زماننا هذا مصالحون للتتر، وبيت الملك عندهم محفوظ متوارث، يليه الرجال والنساء من ذلك البيت.
ومنها الجركس وهم على بحر نيطش من شرقيه، وهم في شظف من العيش، والغالب عليهم دين النصارى. ومنها الروس ولهم بلاد في شمالي بحر نيطش، وهم من ولد يافث، وقد غلب عليهم دين النصارى.
ومنها البلغار منسوبون إلى المدينة التي يسكنونها، وهي في شرقي بحر نيطش، وكان الغالب عليهم النصرانية، ثم أسلم منهم جماعة.
ومنها الألمان وهي من أكبر أمم النصارى، يسكنون في غربي القسطنطينية إلى الشمال، وملكهم كثير الجنود، وهو الذي سار إلى صلاح الدين بن أيوب في مائة ألف مقاتل، فهلك ملك الألمان المذكور، وغالب عسكره في الطريق قبل أن يصلوا إلى الشام، على ما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى مع أخبار صلاح الدين المذكور.
ومنها البرجان:
وهم أيضاً أمة كبيرة، بل أمم كثيرة طاغية، قد فشا فيها التثليث، وبلادهم واغلة في الشمال، وأخبارهم وسير ملوكهم منقطعة عنا لبعدهم. وجفاء طباعهم.
ومنها الإفرنج:
وهم أمم كثيرة، وأصل قاعدة بلادهم فرنجة، ويقال فرنسه، وهي مجاورة لجزيرة الأندلس من شماليها، ويقال لملكهم الفرنسيس، وهو الذي قصد ديار مصر وأخذ دمياط، ثم أسره المسلمون واستنقذوا دمياط منه، ومنوا عليه بالإطلاق، وكان ذلك بعيد موت الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل محمد ابن أبي بكر بن أيوب، على ما سنذكره في سنة ثمان وأربعين وستمائة للهجرة إن شاء الله تعالى، وقد غلب الفرنج على معظم جزيرة الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر مشهورة مثل صقلية وقبرس وإقريطش وغيرها.
ومنهم الجنوية، منسوبون إلى جنوة، وهي مدينة عظيمة، وبلاد كثيرة، وهي غربي القسطنطينية على بحر الروم. ومنها البنادقة، وهم أيضاً طائفة مشهورة، ومدينتهم تسمى البندقية، وهي على خليج يخرج من بحر الروم، يمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال والغرب، وهي قريبة من جنوة في البر، وبينهما نحو ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أمد بعيد أكثر من شهرين، لأنهم يخرجون من شعبة البحر التي على طرفها البندقية، وقدرها سبعمائة ميل إلى بحر الروم مشرقاً، ثم يسيرون فيه مغرباً إلى جنوة، وأما رومية فهي مدينة عظيمة، تقع غربي جنوة والبندقية، وهي مقر خليفتهم، واسمه البابا، وهي شمالي الأندلس بميلة إلى الشرق.
ومن أمم النصارى: الجلالقة:
وهم أشد من الفرنج، وهم أمة يغلب عليهم الجهل والجفاء، ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم، بل يتركونها عليهم إلى أن تبلى، ويدخل أحدهم دار الآخر بدون استئذان، وهم كالبهائم، ولهم بلاد كثيرة في شمالي الأندلس، ومنها الباشقرد، وهم أمة كثيرة ما بين بلاد الألمان وبلاد إفرنجة، وملكهم وغالبهم نصارى، وفيه أيضاً مسلمون، وهم شرسو الأخلاق.

.أمم الهند:

وهم فرق كثيرة، قال الشهرستاني: ومن فرقهم:
الباسوية:
زعموا أن لهم رسولاً ملكاً روحانياً، نزل بصورة البشر، فأمرهم بتعظيم النار والتقرب إليها بالطيب والذبائح، ونهاهم عن القتل والذبح لغير النار، وسن لهم أن يتوشحوا بخيط، يعقدونه من مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم، وأباح لهم الزناء، وأمرهم بتعظيم البقر والسجود لها حيث رأوها، ويتضرعون في التوبة إلى التمسيح بها.
قال ومنهم اليهودية ومن مذهبهم أن لا يعافوا شيئاً، لأن الأشياء جميعها صنع الخالق، ويتقلدون بعظام الناس، ويمسحون رؤوسهم وأجسادهم بالرماد، ويحرمون الذبائح والنكاح، وجمع الأموال، ومنهم عبدة الشمس وعبدة القمر، ومنهم عبدة الأصنام، وهم معظمهم. ولهم أصنام عدّة، كل صنم لطائفة، ويكون لذلك الصنم شكل غير شكل الصنم الآخر، مثل أن يكون أحدها بأيد كثيرة، أو على شكل امرأة ومعه حيات، ونحو ذلك.
ومنهم عبّاد الماء:
ويقال لهم الجلهكينية، ويزعمون أن الماء ملك، وهو أصل كل شيء، وإذا أراد الرجل عبادة الماء تجرد وستر عورته، ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم فيه ساعتين أو أكثر، ويأخذ مهما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغاراً ويلقيها في الماء وهو يسبح، ويقرأ، وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده ثم أخذ منه، فنقّط على رأسه ووجهه، ثم يسجد وينصرف.
ومنهمٍ عباد النار:
ويقال لهم الإكنواطرية، وصورة عبادتهم لها أن يحفروا في الأرض أخدوداً مربعاً ويؤججوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً ولا شراباً لطيفاً ولا ثوباً فاخراً ولا عطراً فائحاً ولا جوهراً نفيساً إلا طرحوه في تلك النار، تقرّباً إليها. وحرموا إلقاء النفوس فيها، خلافاً لطائفة أخرى.
ومنهم البراهمة:
أصحاب الفكرة وهم أهل العلم بالفلك والنجوم، ولهم طريقة في أحكام النجوم تخالف طريقة منجمي الروم، والججم، وذلك أن أكثر أحكامهم باتصالات الثوابت، دون السيارات، وإنما سموا أصحاب الفكرة لأنهم يعظمون أمر الفكرة، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول، ويجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الفكر عن المحسوسات، فإذا تجرد الفكر عن هذا العالم، تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن المغيبات، وربما يوقع الوهم على حي فيقتله، وإنما يصرفون الفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة المجهدة، وبتغميض أعينهم أياماً، والبراهمة لا يقولون بالنبوات وينفونها بالكلية، ولهم على ذلك شبه مذكورة في الملل والنحل لا تليق بهذا المختصر. ومن كتاب ابن سعيد المغربي ونقله عن المسعودي: أنّ الهنود لا يرون إرسال الريح من بطونهم قبيحاً، والسعال عندهم أقبح من الضراط، والجشاء أقبح من الفساء، ومما نقله عن المسعودي أيضاً: إن الهنود يحرقون أنفسهم، وإذا أراد الرجل منهم ذلك أتى إلى باب الملك واستأذنه في إحراق نفسه، فإذا أذن له ألبس ذلك الرجل أنواع الحرير المنقوش، وجعل على رأسه إكليلاً من الريحان، وضربت الطبول والصنوج بين يديه، وقد أججت له النيران، ويدور كذلك في الأسواق وحوله أهله وأقاربه، حتى إذا دنا من النار أخذ خنجراً بيده وشق به جوفه، ثم يهوي بنفسه في النار.
قال والزناء فيما بينهم مباح، قال ويعظمون نهر كنك، وهو نهر عظيم يجري في حدود الهند، من الشرق إلى الغرب، وهو حاد الانصباب، وللهنود رغبة في إتلاف نفوسهم بالتغريق في هذا النهر، ويقتلون أنفسهم على شطه أيضاً، والهنود تتهادى ماء هذا النهر كما يتهادى المسلمون ماء بئر زمزم، وللهند ممالك فمنها: مملكة المانكير وهي من أعظم ممالك الهند، وهي على بحر اللان الذي عليه السند، ولا يدرك لهذا البحر قعر، وهو أول بحار الهند من جهة الغرب، وهذه المملكة أقرب ممالك الهند إلى بلاد الإسلام، وهي التي كان يكثر محمود بن سبكتكين غزوها، حتى فتح منها بلاداً كثيرة، ومن مدنها العظام مدينة لهاور، وهي على جانبي نهر عظيم مثل بغداد.
قال: ويلي مملكة المانكير، مملكة القنوح وهي مملكة بلادها الجبال، وهي منقطعة عن البحر، وكل من ملكها يسمى نوده، ولأهل هذه المملكة أصنام يتوارثون عبادتها، ويزعمون أن لها نحو مائتي ألف سنة.
قال ويجاور هذه المملكة مملكة قمار وهي التي ينسب إليها العود القماري، وهي على البحر، وأهل هذه المملكة يرون تحريم الزناء من بين أهل الهند، قال ابن سعيد ورواه عن المسعودي أن الذي يملكها يسمى زهم، قال ويحاربه من جهة البحر ملك الجزر المعروف بالمهراج.
قال وآخر ممالك الهند من جهة الشرق مملكة بنارس وهي تلي بلاد الصين، وهي مملكة طويلة، وعرضها نحو عشرة أيام، وجزائر بحر الهند في نهاية الكثرة، وهي في البحر قبالة هذه الممالك، ولها ملوك وقد أكثر المصنفون فيها الكلام مما لا يليق بهذا المختصر.